حكاية جنون

  • Post category:قصص

علم الجيولوجيا

عنوان الكتاب الذي يحمله بيديه المرتجفة، متشبث به لايفارقه أبداً، كأنه خلآصه الأكبر.

داخل خيمةٍ متهالكة، في مخيم للنازحين

جلس أبو سعيد على كرسيه الخشبي، الذي صنعه بنفسه، فهو معتاد أن يجمع أولاده كل يوم ليعطيهم درسً صغيرً عن الجيولوجيا وأشياءُُ أُخرى.

⁃ سعيد في الخامسة عشر من عمره جميل الوجه يشبه والدته كثيراً مطيع لأبويه وطموحه أن يصبح طبيبًا.

⁃ سالم أصغر من سعيد بسنتين

وهو نقيضه تماماً مشاكس لا يحب الدراسة ويريد أن يصبح لاعب كرة قدم.

⁃ سليم حبيب أمه والولد المدلل في البيت عمره الأن سبع سنوات.

⁃ سلمى آخر العنقود، وأحبهم على قلب أبو سعيد

يقول أبو سعيد بلهجة العامية : حبايبي، أهم شي الدراسة، هي يلي بتخليكم تفهموا الدنيا، وبتعملكم قيمة بين الناس.

حبيبي سعيد : شوف يلي ماعم تفهموا بالمدرسة خبرني عنو وأنا بفهمك ياه.

وانت سليم :الله يرضى عليك حط الطابة من ايدك ودروس شوي، لك جدول الضرب لسه مالك حافظوا، حبيبي سليم الطابة مالح تفيدك بعدين.

وأنتِ أم سعيد الدنيا مو بس طبخ وغسيل وشغل بالبيت لازم تتثقفي شوي، ماشفتك ولا يوم حاملة كتاب، عنا مكتبة طويلة عريضة، خدي منها الكتاب يلي بدك ياه.

والله انا عم احكي من محبتي فيكم، بدّي ياكن أحسن ناس أنا مو دايملكم !

ليش ما عم تردوا علي ؟!

من خارج الخيمة، صوت ينادي باللهجة العامية ” أبوسعيد يا أبو سعيد وينك يا زلمة، خبرتك من أسبوع، الخيمة بدنا ياها، بكره جاي عيلة بدها تسكن بالخيمة، اليوم بتأخد غراضك وبتطلع أو بطلعك أنا بمعرفتي، مو ناقصنا مجانين ”

كان هذا صوت المسؤول عن المخيم أبو خليل، رجال حقير ،وما عندوا رحمة، بياخذ على كل خيمة عشرين الف ليرة.

مسكين أبو سعيد …

أنا اسمي تهاني، خيمتنا بجانب خيمته، كنتُ طالبة بالثانوي بنفس المدرسة التي يُدرّس فيها، ولقد درّسني مادة الجيولوجيا.

كان دائماً ًبيركز بالدروس على طبقات الأرض الخاصة ببلدنا وغِناها بالمستحاثات التي تؤكد أصالة وعراقة هذه الأرض، كأنه بينهما عشق لاينتهي، هو أستاذ شاطر، صوته المنخفض وأخلاقه العالية جعلت الجميع يحبه ويحترمه.

مع بداية الحرب قُصفت المدرسة وجميع الأحياء تهدمت، ونزحنا للمخيمات.

أبو سعيد مع عائلته حاولوا التأقلم، واستطاعوا خلال وقت قصير التعرف على أغلب الجيران وكسب محبتهم واحترامهم، لقد عاهد أبو سعيد نفسه أن يعطي الدروس لجميع أبناء المخيم مجاناً، ولكن ظروف الحياة في المخيم كانت صعبة جداً وخاصة في الشتاء.

مازلت أذكر تفاصيل تلك الليلة …

كانت الأمطار شديدة والرياح عاصفة،

جاءَ أبو خليل وطلب من الرجال التوجه لعمل سد رملي أمام المخيم، وتوجه أبو سعيد وبعض الرجال ليحملوا أكياس الرمل لعمل السد، ولكن الأمطار كانت قوية ولم يصمد السد، وجرى السيل للمخيم ودخل الماء لكثير من الخيم، جاهد الرجال لتحويل مجرى السيل بعيداً عن الخيام، وعند بداية النهار وإشراق الشمس توقفت الأمطار ونجحوا أخيراً بإبعاد مجرى السيل عن المخيم، وعاد الرجال إلى المخيم لترتيب الأوضاع هناك، وتوجه أبو سعيد لخيمته .

كانت الخيمة مهدمة تماماً، والمياه تغمرها كلياً، وقف أبو سعيد ليشاهد الخيمة بنظرات مشتته، وتلفت يمينًا ويساراً لعله مخطئاً بالخيمة، تجمد بمكانه ولم ينطق بكلمة واحدة، سارع الجيران للمساعدة، ورفعوا الخيمة ليجدوا أم سعيد ملقاة على الأرض، يغمرها الوحل وهي تحضن ولدها المفضل سليم، و الابن الأكبر يحتضن سالم وأخته الصغيرة.

الجميع ماتوا غرقاً …

بعد أن تهدمت فوقهم الخيمة، لم يستطيعوا الخروج منها .

اقترب الجيران من أبو سعيد وقالوا له شد حيلك البقاء لله .

وخلال دفن عائلته لم يبكي أبو سعيد ولم ينطق بكلمة واحدة .

وبعد الانتهاء من الدفن عاد أبو سعيد ليرفع الخيمة، ويبدأ بتنظيف المكان كأن شئ لم يكن.

عندها لمح كتاب الجيولوجيا يغمره الماء، فأخذه بهدوء وجففه بملابسه، وشده إلى صدره، وجلس على كرسيه الخشبي، تنهد بعمق وقال :هيا يا أحبائي، هيا يا سعيد اجمع إخوانك، حان موعد الدرس …